فصل: تفسير الآية رقم (177)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحق من ربك‏}‏

قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ هذا الحق من ربك‏.‏ والممترون‏:‏ الشاكُّون، والخطاب عام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل وجهة‏}‏

أي‏:‏ لكل أهل دين وجهة‏.‏ المراد بالوجهة‏:‏ القبلة، قاله ابن عباس في آخرين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ جهة، ووجهة‏.‏ وفي «هو» ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى‏:‏ الله مولّيها إياهم، أي‏:‏ أمرهم بالتوجه إليها‏.‏ والثاني‏:‏ ترجع إلى المتولي، فالمعنى‏:‏ هو موليها نفسه، فيكون «هو» ضمير كل‏.‏ والثالث‏:‏ يرجع إلى البيت، قاله مجاهد‏:‏ أمر كل قوم أن يصلُّوا إلى الكعبة‏.‏ والجمهور يقرؤون‏:‏ ‏{‏مولّيها‏}‏ وقرأ ابن عامر، والوليد عن يعقوب‏:‏ «هو مولاها» بألف بعد اللام، فضمير «هو» لكل، ومعنى القراءتين متقارب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ أي‏:‏ بادروها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا تغلبوا على قبلتكم، ‏{‏أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هذا في يوم القيامة‏.‏ فأما إعادة قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏149‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن حيث خرجت فَوَلِّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ فانه تكرير تأكيد، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبداً إلى قبلتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس‏}‏ في الناس قولان، أحدهما‏:‏ أنهم أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ مشركو العرب، رواه السدي عن أشياخه‏.‏ فمن قال بالأول؛ قال‏:‏ احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبي‏:‏ مالك تركت قبلة بيت المقدس‏؟‏‏!‏ إن كانت ضلالة فقد دِنت بها الله، وإن كانت هدى؛ فقد نقلت عنها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قالوا‏:‏ اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه‏.‏ ومن قال بالثاني؛ قال‏:‏ احتجاج المشركين أنهم قالوا‏:‏ قد رجع إلى قبلتكم، ويوشك أن يعود إلى دينكم‏.‏

وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حجتهم داحضة عند ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فرحوا بما عندهم من العلم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا الذين ظلموا منهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول‏:‏ مالك عليَّ حجة إِلا الظلم، أي‏:‏ إلا أن تظلمني‏.‏ أي‏:‏ مالك عليّ البتة، ولكنك تظلمني‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فلا تخشوهم‏}‏ في انصرافكم إلى الكعبة ‏{‏واخشوني‏}‏ في تركها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «كما» لا تصلح أن تكون جواباً لما قبلها، والأجود أن تكون معلقة بقوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني‏}‏ وقد روي معناه عن عليّ، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل‏.‏ والآية خطاب لمشركي العرب‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويزكيهم‏}‏ ثلاثة أقوال، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم‏.‏ والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والحكمة‏:‏ السنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروني‏}‏

قال ابن عباس، وابن جبير‏:‏ اذكروني بطاعتي أذكرْكم بمغفرتي‏.‏ وقال إبراهيم بن السري‏:‏ كما أنعمت عليكم بالرسالة، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي‏.‏ قال‏:‏ فان قيل‏:‏ كيف يكون جواب‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا‏}‏‏:‏ ‏{‏فاذكروني‏}‏‏؟‏ فان قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني‏}‏ أمر وقوله‏:‏ ‏{‏أذكركم‏}‏ جزاؤه؛ فالجواب أن المعنى‏:‏ إن تذكروني أذكركم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشكروا لي‏}‏ الشكر الاعتراف بحق المنعم، مع الثناء عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة‏}‏

سبب نزولها أن المشركين قالوا‏:‏ سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض، بالصلاة، وقد سبق الكلام في الصبر، وبيان الاستعانة به وبالصلاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتٌ‏}‏

سبب نزولها أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحد‏:‏ مات فلان ببدر، مات فلان بأحد، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ ورفع الأموات بإضمار مكنى من أسمائهم، أي‏:‏ لا تقولوا‏:‏ هم أموات، ذكر نحوه الفراء‏.‏ فان قيل‏:‏ فنحن نراهم موتى، فما وجه النهي‏؟‏ فالجواب أن المعنى‏:‏ لا تقولوا‏:‏ هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الأرواح، ذكره ابن الأنباري‏.‏ فان قيل‏:‏ أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم‏؟‏ فلم خصصتم الشهداء‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم منعم بما دون ذلك، ذكره ابن جرير الطبري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 156‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏(‏155‏)‏ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال‏}‏

قال الفراء‏:‏ «من» تدل على أن لكل صنف منها شيئاً مضمراً، فتقديره‏:‏ بشيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص الأموال‏.‏

وفيمن أُريد في هذه الآية أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم أصحاب النبي خاصة، قاله عطاء‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم أهل مكة‏.‏ والثالث‏:‏ أن هذا يكون في آخر الزمان‏.‏ قال كعب‏:‏ يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة‏.‏ والرابع‏:‏ أن الآية على عمومها‏.‏

فأما الخوف؛ فقال ابن عباس‏:‏ وهو الفزع في القتال‏.‏ والجوع‏:‏ المجاعة التي أصابت أهل مكة سبع سنين‏.‏ ونقص من الأموال‏:‏ ذهاب أموالهم، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم، والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج‏.‏ وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم‏:‏ أن الخوف في الجهاد، والجوع في فرض الصوم، ونقص الأموال‏:‏ ما فرض فيها من الزكاة والحج، ونحو ذلك‏.‏ والأنفس‏:‏ ما يستشهد منها في القتال، والثمرات‏:‏ ما فرض فيها من الصدقات‏.‏ ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏ على هذه البلاوي بالجنة‏.‏

واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم، ليوطنوا أنفسهم على الصبر، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع‏.‏ ‏{‏قالوا‏:‏ إنا لله‏}‏ يريدون‏:‏ نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء ‏{‏وإنا إِليه راجعون‏}‏ يريدون‏:‏ نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا، والثواب على صبرنا‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم ‏{‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إِنا لله وإِنا إِليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة‏}‏‏.‏ ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، ألم تسمع إِلى قوله ‏{‏يا أسفى على يوسف‏}‏ قال الفراء‏:‏ وللعرب في المصيبة ثلاث لغات‏:‏ مصيبة، ومصابة، ومصوبة، زعم الكسائي أنه سمع أعرابياً يقول‏:‏ جبر الله مصوبتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 157‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك عليهم صلوات من ربهم‏}‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ الصلوات من الله‏:‏ المغفرة ‏{‏وأولئك هم المهتدون‏}‏ بالاسترجاع‏.‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ نعم العدلان، ونعمت العلاوة‏:‏ ‏{‏أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 159‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏‏.‏

في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن رجالاً من الأنصار ممن كان يهلُّ لمناة في الجاهلية- ومناة‏:‏ صنم كان بين مكة والمدينة- قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا كنا لا نطَّوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه عروة عن عائشة‏.‏

والثاني‏:‏ أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة، لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام، فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كان وثن على الصفا يدعى‏:‏ إساف، ووثن على المروة يدعى‏:‏ نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما، فنزلت هذه الآية‏.‏

والثالث‏:‏ أن الصحابة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت، ولم يذكره بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطَّوَّف بهما؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ رواه الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن جماعة من أهل العلم‏.‏ قال إبراهيم بن السري‏:‏ الصفا في اللغة‏:‏ الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً، وهو جمع، واحده صفاة وصفا، مثل‏:‏ حصاة وحصى‏.‏ والمروة‏:‏ الحجارة اللينة، وهذان الموضعان من شعائر الله، أي‏:‏ من أعلام متعبداته‏.‏ وواحد الشعائر‏:‏ شعيرة‏.‏ والشعائر‏:‏ كل ما كان من موقف أو سعي أو ذبح‏.‏ والشعائر‏:‏ من شعرت بالشيء‏:‏ إذا علمت به، فسميت الأعلام التي هي متعبدات الله‏:‏ شعائر الله‏.‏ والحج في اللغة‏:‏ القصد، وكذلك كل قاصد شيئاً فقد اعتمره‏.‏ والجناح‏:‏ الإثم، أخذ من جنح‏:‏ إذا مال وعدل، وأصله من جناح الطائر، وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما، لمكان الأوثان، فقيل لهم‏:‏ إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما فأعلم الله عز وجل أنه لا جناح في التطوف بهما، وأن من تطوع بذلك فان الله شاكر عليم‏.‏ والشكر من الله‏:‏ المجازاة والثناء الجميل، والجمهور قرؤوا ‏{‏ومن تطوَّعَ‏}‏ بالتاء ونصب العين‏.‏ منهم‏:‏ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأ حمزة، والكسائي «يطوع» بالياء وجزم العين‏.‏ وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات‏.‏

فصل

اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه‏.‏ ونقل أبو طالب‏:‏ لا شيء في تركه عمداً أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه‏.‏ ونقل الميموني أنه تطوع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى‏}‏ قال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ نزلت في رؤساء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من البينات والهدى، فالبينات‏:‏ الحلال والحرام والحدود والفرائض‏.‏

والهدى‏:‏ نعت النبي وصفته ‏{‏من بعد ما بيناه للناس‏}‏ قال مقاتل‏:‏ لبني إسرائيل‏.‏ وفي الكتاب قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التوراة، وهو قول ابن عباس، والثاني‏:‏ التوراة والإنجيل، قاله قتادة‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الكاتمين ‏{‏يلعنهم الله‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أصل اللعن في اللغة‏:‏ الطرد، ولعن الله إبليس، أي‏:‏ طرده، ثم انتقل ذلك فصار قولاً‏.‏ قال الشماخ وذكر ماءً‏:‏

ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين

أي‏:‏ الطريد وفي اللاعنين أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن المراد بهم، دواب الأرض، رواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد، وعكرمة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يقولون‏:‏ إنما منعنا القطر بذنوبكم، فيلعنونهم‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم المؤمنون، قاله عبد الله بن مسعود‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم الملائكة والمؤمنون، قاله أبو العالية، وقتادة‏.‏ والرابع‏:‏ أنهم الجن والإنس وكل دابة، قاله عطاء‏.‏

فصل

وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين، منصوصة كانت أو مستنبطة، وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله، وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ إنكم تقولون‏:‏ أكثر أبو هريرة على النبي صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، وأيم الله‏:‏ لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً، ثم تلا ‏{‏إِن الذين يكتمون ما أنزلنا‏}‏‏.‏‏.‏ إلى آخرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا الذين تابوا‏}‏

قال ابن مسعود‏:‏ إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم، وبينوا صفة رسول الله في كتابهم‏.‏

فصل

وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه، وهذا ليس بنسخ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ، ومما يحقق هذا أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ‏}‏

إنما شرط الموت على الكفر، لأن حكمه يستقر بالموت عليه، فان قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ ‏{‏والناس أجمعين‏}‏ وأهل دينه لا يلعنونه، فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم يلعنونه في الآخرة قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أُمة لعنت أختها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن المراد بالناس هاهنا‏:‏ المؤمنون، قاله ابن مسعود، وقتادة، ومقاتل‏.‏ فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص‏.‏ والثالث‏:‏ أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها‏:‏ لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏162‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ في هاء الكناية قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود إلى اللعنة، قاله ابن مسعود، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى النار، وإِن لم يجر لها ذكر فقد علمت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِلهُكُمْ إِله واحد‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ إن كفار قريش قالوا‏:‏ يا محمد صف لنا ربك وانسبه‏.‏ فنزلت هذه الآية، وسورة الإخلاص‏.‏ والإله بمعنى‏:‏ المعبود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض‏}‏

في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن المشركين قالوا للنبي‏:‏ اجعل لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً؛ فنزلت هذه الآية، حكاه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم لما قالوا‏:‏ انسب لنا ربك وصفه؛ فنزلت‏:‏ ‏{‏وإِلهكم إِله واحد‏}‏ قالوا‏:‏ فأرنا آية ذلك؛ فنزلت‏:‏ ‏{‏إِن في خلق السموات والأرض‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يعقلون‏}‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنه لما نزلت ‏{‏وإِلهكم إِله واحد‏}‏ قال كفار قريش‏:‏ كيف يسع الناس إِله واحد‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله عطاء‏.‏

فأما ‏{‏السموات‏}‏؛ فتدل على صانعها، إذ هي قائمة بغير عمد، وفيها من الآيات الظاهرة، ما يدل يسيره على مبدعه، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها، وتمهيد سهولها، وإرساء جبالها، إلى غير ذلك‏.‏ ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن، وزائل بعد أن كان ‏{‏والفلك‏}‏‏:‏ السفن‏:‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الواحد والجمع بلفظ واحد‏.‏ وقال اليزيدي‏:‏ واحده فلكة، ويذكر ويؤنث‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الفلك‏:‏ السفن، ويكون واحداً، ويكون جمعاً، لأن فَعَل، وفُعُل جمعهما واحد، ويأتيان كثيراً بمعنى واحد‏.‏ يقال‏:‏ العَجم والعُجم، والعَرب والعربُ، والفلك والفُلك‏.‏ والفلك‏:‏ يقال لكل شيء مستدير، أو فيه استدارة‏.‏ و‏{‏البحر‏}‏‏:‏ الماء الغزير ‏{‏بما ينفع الناس‏}‏ من المعايش‏.‏ ‏{‏وما أنزل الله من السماء من ماء‏}‏ يعني‏:‏ المطر، والمطر ينزل على معنى واحد، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد، والأنواع تختلف في النبات والطعوم والألوان والأشكال المختلفات، وفي ذلك رد على من قال‏:‏ إنه من فعل الطبيعة، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها، إذ المتفق لا يوجب المختلف، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏يسقى بماء واحد ونُفضل بعضها على بعض في الأُكُل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبثَّ‏}‏ أي‏:‏ فرق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ قرأ ابن كثير ‏{‏الرياح‏}‏ على الجمع في خمسة مواضع‏:‏ هاهنا‏.‏ وفي ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ وفي ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏تذروه الرياح‏}‏ وفي ‏[‏الروم‏:‏ 46‏]‏ الحرف الأول ‏{‏الرياح‏}‏ وفي ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ وقرأ باقي القرآن ‏{‏الريح‏}‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏الرياح‏}‏ في خمسة عشر موضعاً في البقرة، وفي ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ ‏{‏يرسل الرياح‏}‏ وفي ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏اشتدت به الرياح‏}‏ وفي ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏الرياح لواقح‏}‏ وفي ‏[‏سبحان‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وفي ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ‏{‏تذروه الرياح‏}‏ وفي ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏ وفي ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏أرسل الرياح‏}‏ وفي النمل‏.‏ والثاني من ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ وفي ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏ وفي ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وفي ‏[‏عسق‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏يسكن الرياح‏}‏ وفي ‏[‏الجاثية‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ تابعه نافع إلا في سبحان‏.‏ ورياح سليمان‏:‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏‏.‏ وتابع نافعاً أبو عمرو إلا في حرفين‏:‏ ‏{‏الريح‏}‏ في إبراهيم، وعسق، ووافق أبا عمرو، وعاصم، وابن عامر، وقرأ حمزة ‏{‏الرياح‏}‏ جمعاً في موضعين‏:‏ في الفرقان، والحرف الأول من الروم، وباقيهن على التوحيد‏.‏ وقرا الكسائي مثل حمزة، إلا إنه زاد عليه في ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ‏{‏الرياح لواقح‏}‏ ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام، فمن جمع؛ فكل ريح تساوي أختها في الدلالة على التوحيد والنفع‏.‏

ومن وحد؛ أراد الجنس‏.‏

ومعنى تصريف الرياح‏:‏ تقلّبها شمالاً مرة، وجنوباً مرة، ودبوراً أُخرى، وصباً أُخرى، وعذاباً ورحمة ‏{‏والسحاب المسخر‏}‏‏:‏ المذلل‏.‏ والآية فيه من أربعة أوجه، ابتداء كونه، وانتهاء تلاشيه، وقيامه بلا دعامة ولا علاقة، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى‏.‏ لآيات‏.‏ الآية‏:‏ العلامة‏.‏ أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال‏:‏ أخبرنا عاصم قال‏:‏ أخبرنا ابن بشران قال‏:‏ أخبرنا ابن صفوان قال‏:‏ حدثنا ابن أبي الدنيا قال‏:‏ حدثني هارون قال‏:‏ حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال‏:‏ سمعت الحسن يقول‏:‏ كانوا يقولون، يعني‏:‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحمد لله الرفيق، الذي لو جعل هذا الخلق خلقاً دائماً لا يتصرف، لقال الشاك في الله‏:‏ لو كان لهذا الخلق ربٌ لحادثه، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات، إنه جاء بضوء طبَّق ما بين الخافقين، وجعل فيها معاشاً، وسراجاً وهاجاً، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق، وجاء بظلمة طبَّقت ما بين الخافقين، وجعل فيه سكناً ونجوماً، وقمراً منيراً، وإذا شاء، بنى بناء، جعل فيه المطر، والبرق، والرعد، والصواعق، ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس، وإذا شاء ذهب بذلك، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق رباً يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً‏}‏

وفي الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يحبونهم كحب الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن معناه يحبونهم كحب الذين آمنوا لله، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء‏.‏

والثاني‏:‏ يحبونهم كمحبتهم لله، أي‏:‏ يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة‏.‏ هذا اختيار الزجاج، قال‏:‏ والقول الأول ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا أشد حباً لله‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أشد حباً لله من أهل الأوثان لأوثانهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يرى الذين ظلموا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم، وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏يرى‏}‏ بالياء، ومعناه‏:‏ لو يرون عذاب الآخرة؛ لعلموا أن القوة لله جميعاً‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ بالتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الناس‏.‏ وجوابه محذوف، تقديره‏:‏ لرأيتم أمراً عظيماً، كما تقول‏:‏ لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه‏.‏ وإنما حذف الجواب، لأن المعنى واضح بدونه‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وإنما قال‏:‏ «إِذ» ولم يقل‏:‏ «إِذا» وإن كانت «إِذ» لما مضى، لإرادة تقريب الأمر، فأتى بمثال الماضي، وإنما حذف جواب «لو» لأنه أفخم، لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد‏.‏ وقرا أبو جعفر ‏{‏إِن القوة للهِ‏}‏ و‏:‏ ‏{‏إِن الله‏}‏ بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، كأنه يقول‏:‏ فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم ‏{‏إن القوة لله جميعاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ القوة‏:‏ القدرة، والمنعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 167‏]‏

‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين اتَّبعوا‏}‏ فيهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم القادة والرؤساء، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل، والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم الشياطين، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورأَؤُا العذاب‏}‏ يشمل الكل ‏{‏وتقطَّعت بهم الأسباب‏}‏ أي‏:‏ عنهم، مثل قوله ‏{‏فَسْئَلْ به خبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وفي ‏{‏الأسباب‏}‏ أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها المودات، وإلى نحوه ذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها الأعمال، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وهو قول أبي صالح، وابن زيد، والثالث‏:‏ أنها الأرحام، رواه ابن جريج عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أنها تشمل جميع ذلك‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا، فأما تسميتها بالأسباب، فالسبب في اللغة‏:‏ الحبل، ثم قيل لكل ما يتوصل به إلى المقصود‏:‏ سبب‏.‏ والكرَّة‏:‏ الرجعة إلى الدنيا، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين‏.‏ ‏{‏فنتبرَّأَ منهم‏}‏ يريدون‏:‏ من القادة ‏{‏كما تبرؤوا منَّا‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏كذلك يريهم الله أعمالهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ كتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم، لأن أعمال الكافر لا تنفعه، وقال ابن الأنباري‏:‏ يريهم الله أعمالهم القبيحة حسراتٍ عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم، قال‏:‏ ويجوز أن يكون كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم الصالحة وجزاءها، فحذف الجزاء‏.‏ وأقام الأعمال مقامه‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ والحسرة‏:‏ التلهف على الشيء الفائت‏.‏ وقال غيره‏:‏ الحسرة‏:‏ أشد الندامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً‏}‏ نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني عامر ابن صعصعة، فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرّموا البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم ‏{‏خُطوات‏}‏ مثقلة‏.‏ وقرا نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة ‏{‏خُطْوات‏}‏ ساكنة الطاء خفيفة‏.‏ وقرا الحسن، وأبو الجوزاء ‏{‏خَطْوات‏}‏ بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز‏.‏ وقرا أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ خطواته‏:‏ سبيله ومسلكه، وهي جمع خُطوة، والخطوة بضم الخاء‏:‏ ما بين القدمين، وبفتحها‏:‏ الفعلة الواحدة‏.‏ واتباعهم خطواته‏:‏ أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلها الله، ويحلّون أشياء قد حرمها الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّه لكم عدوٌ مبين‏}‏ أي‏:‏ بيِّن وقيل‏:‏ أبان عداوته بما جرى له مع آدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما يأمركم بالسُّوء‏}‏ السوء‏:‏ كل إثم وقبح‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وإنما سمي سوءاً، لأنه تسوء عواقبه، وقيل‏:‏ لأنه يسوء إظهاره ‏{‏والفحشاء‏}‏ من‏:‏ فحش الشيء‏:‏ إذا جاز قدره‏.‏ وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها كل معصية لها حد في الدنيا‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ما لا يعرف في شريعة ولا سنة‏.‏ والثالث‏:‏ أنها البخل، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أنها الزنى، قاله السدي‏.‏ والخامس‏:‏ المعاصي، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ أي‏:‏ أنه حرم عليكم ما لم يحرّم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اتَّبعوا ما أنزل الله‏}‏

اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها في الذين قيل لهم‏:‏ ‏{‏كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً‏}‏ فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم، وهذا قول مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في اليهود، وهي قصة مستأنفة، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ في مشركي العرب وكفار قريش، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً‏}‏ فعلى القول الأول؛ يكون المراد بالذي أنزل الله‏:‏ تحليل الحلال، وتحريم الحرام‏.‏ وعلى الثاني يكون‏:‏ الإسلام‏.‏ وعلى الثالث‏:‏ التوحيد والإسلام‏.‏ و‏{‏ألفيْنا‏}‏ بمعنى‏:‏ وجدنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوَ لَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً‏}‏ من الدين، ولا يهتدون له، أيتبعونهم أيضاً في خطئهم وافترائهم‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 172‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق‏}‏

في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناها‏:‏ ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي، وهذا قول الفراء، وثعلب، قالا جميعاً‏:‏ أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي، ولم يقل‏:‏ كالغنم، والمعنى‏:‏ ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها الراعي‏:‏ ارعي، أو اشربي؛ لم تدر ما يقول لها، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن، وإنذار الرسول، فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى في المرعي، وهو ظاهر في كلام العرب، يقولون‏:‏ فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى‏:‏ كخوفه الأسد، ‏[‏لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف‏]‏‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كانت فريضة ما تقول كما *** كان الزناءُ فريضةَ الرجم

والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنى‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناها‏:‏ ومثل الذين كفروا، ومثلنا في وعظهم، كمثل الناعق والمنعوق به، فحذف‏:‏ ومثلنا، اختصاراً، إذ كان في الكلام ما يدل عليه، وهذا قول ابن قتيبة، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتم التي يعبدون، كمثل الذي ينعق، هذا قول ابن زيد، والذي ينعق هو الراعي، يقال‏:‏ نعق بالغنم، ينعق نعقاً ونعيقاً ونعاقاً ونعقاناً‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال‏:‏ نعق، إلا في الصياح بالغنم وحدها، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى‏.‏ ‏{‏صُمٌ بُكمٌ‏}‏ إنما وصفهم بالصم والبَكم، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا يسمع، وكذلك في النطق والنظر، وقد سبق شرح هذا المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏173‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما حرَّم عليكم الميتة‏}‏

قرأ أبو جعفر «الميته» هاهنا، وفي المائدة، والنحل‏:‏ و‏{‏بلدة ميّتاً‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 11‏]‏‏.‏ بالتشديد، حيث وقع‏.‏ والميتة في عرف الشرع‏:‏ اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث، أذىً للآكل، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال‏:‏ ميتة حكماً، لأن حكمه حكم الميتة، كذبيحة المرتد‏.‏ فأما الدم؛ فالمحرم منه‏:‏ المسفوح، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو دماً مسفوحاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق؛ فهو مباح‏.‏

فأما لحم الخنزير؛ فالمراد‏:‏ جملته، وإنما خص اللحم، لأنه معظم المقصود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى‏.‏ ومعنى ‏{‏وما أهلَّ به لغير الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله، ومثله الإهلال بالحج، إنما هو رفع الصوت بالتلبية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ أي‏:‏ ألجيء بضرورة‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏فمن اضّطِر‏}‏ بكسر الطاء حيث كان‏.‏ وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير باغٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ البغي‏:‏ قصد الفساد‏.‏ يقال‏:‏ بغى الجرح‏:‏ إذا ترامى إلى الفساد‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏غير باغٍ ولا عادٍ‏}‏ أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه غير باغ على الولاة، ولا عاد يقطع السبيل، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ غير باغٍ في أكله فوق حاجته، ولا متعدٍ بأكلها وهو يجد غيرها، هذا قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، والربيع‏.‏ والثالث‏:‏ غير باغٍ، أي‏:‏ مستحلٍ، ولا عاد‏:‏ غير مضطر، روي عن سعيد ابن جبير، ومقاتل‏.‏ والرابع‏:‏ غير باغ شهوته بذلك، ولا عاد بالشبع منه، قاله السدي‏.‏

فصل

معنى الضرورة في إباحة الميته‏:‏ أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه‏.‏ سئل أحمد، رضي الله عنه، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة، فذكر عن مسروق أنه قال‏:‏ من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار، فأما مقدار ما يأكل؛ فنقل حنبل‏:‏ يأكل مقدار ما يقيمه عن الموت‏.‏ ونقل ابن منصور‏:‏ يأكل بقدر ما يستغني‏.‏ فظاهر الأولى‏:‏ أنه لا يجوز له الشبع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وظاهر الثانية‏:‏ جواز الشبع، وهو قول مالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏174‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في اليهود، كتموا اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وغيّروه في كتابهم‏.‏ والثمن القليل‏:‏ ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا‏.‏ ‏{‏أولئك ما يأكلون في بطونهم إِلا النار‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ إن الذين يأكلونه يعذّبون به، فكأنهم يأكلون النار‏.‏ ‏{‏ولا يكلِّمهم‏}‏ هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفار ولا يحاسبهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ ‏[‏فيه‏]‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لا يزكي أعمالهم، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ لا يثني عليهم، قاله الزجاج‏.‏ والثالث‏:‏ لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، قاله ابن جرير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏175‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة‏}‏ أي‏:‏ اختاروها على الهدى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أصبرهم على النار‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار‏!‏ قاله عكرمة، والربيع‏.‏ والثاني‏:‏ ما أجرأهم على النار؛ قاله الحسن، ومجاهد‏.‏ وذكر الكسائي أن أعرابياً حلف له رجل كاذباً فقال الأعرابي‏:‏ ما أصبرك على الله، يريد ما أجرأك‏.‏ والثالث‏:‏ ما أبقاهم في النار، كما تقول‏:‏ ما أصبر فلاناً على الحبس، أي ما أبقاه فيه، ذكره الزجاج‏.‏ والرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ فأي شيء صبّرهم على النار‏؟‏‏!‏ قاله ابن الأنباري‏.‏ وفي «ما» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها للاستفهام، تقديرها‏:‏ ما الذي أصبرهم‏؟‏ قاله عطاء، والسدي، وابن زيد، وأبو بكر بن عياش‏.‏ والثاني‏:‏ أنها للتعجب، كقولك‏:‏ ما أحسن زيداً، وما أعلم عَمراً‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معنى الآية التعجب، والله يعجِّبُ المخلوقين، ولا يعجب هو كعجبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق‏}‏ الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب، فتقديره‏:‏ ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه‏.‏ وفي «الكتاب» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التوراة‏.‏ والثاني‏:‏ القرآن‏.‏ وفي «الحق» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه العدل، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ضد الباطل، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن الذين اختلفوا في الكتاب‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه التوراة‏.‏ ثم في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها، فادعى النصارى فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود ذلك‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم خالفوا سلفهم في التمسك بها‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القرآن فمنهم من قال‏:‏ شعر، ومنهم من قال‏:‏ إنما يعلّمه بشر‏.‏

والشقاق‏:‏ معاداة بعضهم لبعض‏.‏ وفي معنى «بعيد» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض، قاله الزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه بعيد من الهدى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏177‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس البِرَّ أن تولوا وجوهكم‏}‏

قال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أن رجلاً سأل عن «البِر» فأنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله، فتلاها عليه‏.‏ وفيمن خُوطب بها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم المسلمون‏.‏ والثاني‏:‏ أهل الكتابين‏.‏ فعلى القول الاول؛ معناها‏:‏ ليس البر كله في الصلاة، ولكن البر ما في هذه الآية‏.‏ وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، وسفيان‏.‏ وعلى القول الثاني؛ معناها‏:‏ ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، ولكن البر ما في هذه الآية، وهذا قول قتادة، والربيع، وعوف الأعرابي، ومقاتل‏.‏

وقرأ حمزة وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏ليس البرّ‏}‏ بنصب الراء‏.‏ وقرأ الباقون برفعها، قال أبو علي‏:‏ كلاهما حسن، لأن كل واحد من الاسمين؛ اسم «ليس» وخبرها، معرفة، فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسماً، والآخر خبراً، كما تتكافأ النكرتان‏.‏

وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ الإيمان‏.‏ والثاني‏:‏ التقوى‏.‏ والثالث‏:‏ العمل الذي يقرب إلى الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن بالله‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ ولكن البرّ برّ من آمن بالله‏.‏ والثاني‏:‏ ولكن ذا البر من آمن بالله‏.‏ حكاهما الزجاج‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏ولكن البر‏}‏ بتخفيف نون «لكن» ورفع «البر»‏.‏ وإنما ذكر اليوم الآخر، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه القرآن‏.‏ والثاني‏:‏ أنه بمعنى الكتب، فيدخل في هذا اليهود، لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حُبِّه‏}‏ في هاء «حبه» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى المال‏.‏ والثاني‏:‏ إلى الإيتاء‏.‏ وكان الحسن إذا قرأها قال‏:‏ سوى الزكاة المفروضة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذوي القربى‏}‏ يريد‏:‏ قرابة المعطي‏.‏ وقد شرحنا معنى‏:‏ ‏{‏اليتامى والمساكين‏}‏ عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة‏.‏ فأما ‏{‏ابن السبيل‏}‏ ففيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الضيف، قاله سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج، والثاني‏:‏ أنه الذي يمر بك مسافراً، قاله الربيع، بن أنس‏.‏ وعن مجاهد، وقتادة كالقولين‏.‏ وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ هو المنقطع به يريد بلداً آخر‏.‏ وهذا اختيار ابن جرير الطبري، وأبي سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى، ويحققه‏:‏ أن السبيل الطريق، وابنه‏:‏ صاحبه الضارب فيه، فله حق على من يمر به إذا كان محتاجاً‏.‏ ولعل أصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا، لأنه إن كان مسافراً، فانه ضيف لم ينزل‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أنه الذي يريد سفراً، ولا يجد نفقة، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي الرقاب‏}‏ أي‏:‏ في فك الرقاب‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وابن زيد، والشافعي، والثاني‏:‏ أنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس، وأبو عبيد، وأبو ثور‏.‏ وعن أحمد كالقولين‏.‏

فأما البأساء‏:‏ فهي‏:‏ الفقر‏.‏ والضراء‏:‏ المرض‏.‏ وحين البأس‏:‏ القتال؛ قاله الضحاك‏.‏ ‏{‏أولئك الذين صدقوا‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ تكلموا بالإيمان وحققوه بالعمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏178‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص‏}‏

روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين؛ قالوا‏:‏ لن نقتل به إلا حراً، تعززاً لفضلهم على غيرهم‏.‏ وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين؛ قالوا‏:‏ لن نقتل بها إلا رجلاً؛ فنزلت هذا الآية‏.‏ ومعنى «كتب»‏:‏ فرض، قاله ابن عباس وغيره‏.‏ والقصاص‏:‏ مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من‏:‏ قص الأثر‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف يكون فرضاً والولي مخير بينه وبين العفو‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه فرض على القاتل للولي، لا على الولي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء‏}‏ أي‏:‏ من دم أخيه، أي‏:‏ ترك له القتل، ورضي منه بالدية‏:‏ ودل قوله‏:‏ ‏{‏من أخيه‏}‏ على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام، ‏{‏فاتباع بالمعروف‏}‏ أي‏:‏ مطالبته بالمعروف، بأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها‏:‏ ‏{‏وأداء إِليه باحسان‏}‏ يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل ‏{‏ذلك تخفيف من ربكم‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخَّص الله لأمة محمد، فان شاء وليّ المقتول عمداً، قتل، وإن شاء، عفا، وإن شاء، أخذ الدية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى‏}‏ أي‏:‏ ظلم، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية؛ ‏{‏فله عذاب أليم‏}‏ قال قتادة‏:‏ يقتل ولا تقبل منه الدية‏.‏

فصل

ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏الحر بالحر‏}‏؛ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذلك لما قال‏:‏ ‏{‏والأُنثى بالأُنثى‏}‏ اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ قال شيخنا علي بن عبد الله‏:‏ وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ، لأن الفقهاء يقولون‏:‏ دليل الخطاب حجة مالم يعارضه دليل أقوى منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏179‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏

قال الزجاج‏:‏ إذا علم الرجل أنه إن قَتَل قُتِل؛ أمسك عن القتل، فكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك‏.‏ وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال‏:‏

أبلغ أبا مالك عني مغلغلة *** وفي العتاب حياة بين أقوام

يريد‏:‏ أنهم إذا تعاتبوا أصلح من بينهم العتاب‏.‏ والألباب‏:‏ العقول، وإنما خصهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عاماً، لأنهم المنتفعون بالخطاب، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لعلكم تتقون الدماء‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به‏.‏

فصل

نقل ابن منصور عن أحمد‏:‏ إذا قتل رجل رجلاً بعصى، أو خنقه، أو شدخ رأسه بحجر، يقتل بمثل الذي قتل به‏.‏ فظاهر هذا‏:‏ أن القصاص يكون بغير السيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك، والشافعي‏.‏ ونقل عنه حرب‏:‏ إذا قتله بخشبة قتل بالسيف‏.‏ ونقل أبو طالب‏:‏ إذا خنقه قتل بالسيف‏.‏ فظاهر هذا‏:‏ أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إِذا حضر أحدَكم الموتُ‏}‏

قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ وكتب عليكم، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو‏.‏ وعلم أن معناه معنى الواو، وليس المراد‏:‏ كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت، لأنه في شغل حينئذ، وإنما المعنى‏:‏ كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل‏:‏ إذا أنا متُّ، فلفلان كذا‏.‏ فأما الخير هاهنا؛ فهو المال في قول الجماعة‏.‏

وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصية فيه ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه ألف درهم فصاعداً، روي عن علي، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه سبعمائة درهم فما فوقها، رواه طاووس عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ ستون ديناراً فما فوقها، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال‏.‏ قالت عائشة لرجل سألها‏:‏ إني أُريد الوصية، فقالت‏:‏ كم مالك‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثة آلاف، قالت‏:‏ كم عيالك‏؟‏ قال‏:‏ أربعة‏.‏ قالت‏:‏ هذا شيء يسير، فدعه لعيالك‏.‏ والخامس‏:‏ أنه من ألف درهم إلى خمسمائة، قاله إبراهيم النخعي‏.‏ والسادس‏:‏ أنه القليل والكثير، رواه معمر عن الزهري‏.‏ فأما المعروف؛ فهو الذي لا حيف فيه‏.‏

فصل

وهل كانت الوصية ندباً أو واجبة‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها كانت ندباً‏.‏ والثاني‏:‏ أنها كانت فرضاً، وهو أصح، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏ ومعناه‏:‏ فرض‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ نسخت هذه الآية بآية الميراث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نسختها‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏ والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون‏:‏ هل تجب الوصية لهم‏؟‏ على قولين، أصحهما أنها لا تجب لأحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏181‏]‏

‏{‏فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن بدله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها، فانما إثمه على مبدله، لا على الموصي، ولا على الموصى له ‏{‏إن الله سميع‏}‏ لما قد قاله الموصي ‏{‏عليم‏}‏ بما يفعله الموصى إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏182‏]‏

‏{‏فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف من موصٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم ‏{‏مُوصٍ‏}‏ ساكنة الواو، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم «مُوَصٍ» مفتوحة الواو مشددة الصاد‏.‏ وفي المراد بالخوف هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه العلم‏.‏ والثاني‏:‏ نفس الخوف‏.‏ فعلى الأول؛ يكون الجور قد وجد‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ يخشى وجوده‏.‏ و«الجنف»‏:‏ الميل عن الحق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ جنفاً، أي‏:‏ ميلاً، أو إثماً، أي‏:‏ قصد الإثم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الجنف‏:‏ الخطأ، والإثم‏:‏ العمد‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ الجنف‏:‏ الخروج عن الحق، وقد يسمى به المخطئ والعامد، إلا أن المفسرين علّقوا الجنف على المخطئ، والإثم على العامد‏.‏

وفي توجيه هذه الآية قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ من حضر رجلاً يموت، فأسرف في وصيته، أو قصر عن حق؛ فليأمره بالعدل، هذا قول مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناها‏:‏ من أوصى بجور، فرد وليّه وصيته، أو ردها إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيّه؛ فلا إثم عليه، وهذا قول قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصلح بينهم‏}‏ أي‏:‏ بين الذين أوصى لهم، ولم يجر لهم ذكر، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، وأنشد الفراء‏:‏

وما أدري إذا يممتُ أرضاً *** أريد الخير أيهما يليني‏؟‏‏!‏

أألخير الذي أنا أبتغيه *** أم الشر الذي هو يبتغيني

فكنّى في البيت الأول عن الشر بعد ذكره الخير وحده، لما في مفهوم اللفظ من الدلالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏183‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام‏}‏

الصيام في اللغة‏:‏ الإمساك في الجملة، يقال‏:‏ صامت الخيل‏:‏ إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح‏:‏ إِذا أمسكت عن الهبوب‏.‏ والصوم في الشرع‏:‏ عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه‏.‏ وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وهو قول مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم النصارى‏:‏ قاله الشعبي، والربيع، والثالث‏:‏ أنهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

وفي موضع التشبيه في كاف ‏{‏كما كتب‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عدده‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت‏.‏ وقد أرخص لكم‏.‏ فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ فانها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين‏.‏ والثاني‏:‏ أن التشبيه في عدد الأيام‏.‏ ثم في ذلك قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم‏.‏ قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ قال‏:‏ كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ برمضان‏.‏ قال معمر عن قتادة‏:‏ كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ والثاني‏:‏ أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقدم النصارى يوماً ثم يوماً، وأخَّروا يوماً، ثم قالوا‏:‏ نقدم عشراً ونؤخر عشراً‏.‏ وقال السدي عن أشياخه‏:‏ اشتد على النصارى صوم رمضان، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا‏:‏ نزيد عشرين يوماً نكفر بها ما صنعنا‏.‏ فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل‏:‏ لعلكم تتقون محظورات الصوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏184‏]‏

‏{‏أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أياماً معدودات‏}‏ قال الزجاج‏:‏ نصب «أياماً» على الظرف، كأنه قال‏:‏ كتب عليكم الصيام في هذه الأيام‏.‏ والعامل فيه «الصيام»، كأنَّ المعنى‏:‏ كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات‏.‏ وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها ثلاثة أيام من كل شهر‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء‏.‏ والثالث‏:‏ أنها شهر رمضان، وهو الأصح‏.‏ وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام‏}‏ فيه إضمار‏:‏ فأفطر‏.‏

فصل

وليس المرض والسفر على الإطلاق، فان المريض إذا لم يضر به الصوم؛ لم يجز له الإفطار، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم‏.‏ واتفق العلماء أن السفر مقدر، واختلفوا في تقديره، فقال أحمد، ومالك، والشافعي، أقله مسيرة ستة عشر فرسخاً؛ يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ أقله مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ‏.‏ وقيل‏:‏ إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف، يقال‏:‏ سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح‏:‏ إذا أضاء، فسمي الخروج إلى المكان البعيد‏:‏ سفراً، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين‏}‏ نقل عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وعلقمة، والزهري في آخرين في هذه الآية‏؟‏ أنهم قالوا‏:‏ كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً حتى نزلت‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ فعلى هذا يكون معنى الكلام‏:‏ وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، ثم نسخت‏.‏ وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ نزلت في الحامل والمرضع‏.‏ وقرا أبو بكر الصديق، وابن عباس‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطوّقونه‏}‏ بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الشيخ والشيخة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فديةٌ طعامُ مسكين‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «فديةٌ» منون ‏{‏طعام المسكين‏}‏ موحد‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع‏.‏ قال أبو علي‏:‏ معنى القراءة الأولى‏:‏ على كل واحد طعام مسكين‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏فاجلدوهم ثمانين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أي‏:‏ اجلدوا كل واحد ثمانين‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة، وأعطانا كلنا مئة، أي‏:‏ فعل ذلك بكل واحد منا‏.‏ قال‏:‏ فأما من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به‏:‏ فدية، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها، فهو على هذا من باب‏:‏ خاتم حديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تطوع خيراً‏}‏ ‏[‏فيه‏]‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ من أطعم مسكينين، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أن التطوع إطعام مساكين، قاله طاووس‏.‏ والثالث‏:‏ أنه زيادة المسكين على قوته، وهو مروي عن مجاهد، وفعله أنس ابن مالك لما كبر ‏{‏وأن تصوموا خير لكم‏}‏ عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيّرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في أول الآية عن السلف، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين، والحامل والمرضع، إذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف، وهذا يقوي قول القائلين بنسخ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏185‏]‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان‏}‏

قال الأخفش‏:‏ شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام، كأنه لما قال‏:‏ ‏{‏أياماً معدودات‏}‏ فسرها فقال‏:‏ هي شهر رمضان‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وقرأ مجاهد‏:‏ ‏{‏شهرَ رمضان‏}‏ بالنصب وأُراه نصبه على معنى الإغراء‏:‏ عليكم شهر رمضان فصوموه، كقوله‏:‏ ‏{‏ملةَ أبيكم‏}‏ وقوله ‏{‏صبغةَ الله‏}‏ قلت‏:‏ وممن قرأ بالنصب معاوية، والحسن، وزيد بن علي، وعكرمة، ويحيى بن يعمر‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الرمض‏:‏ حر الحجارة من شدة حر الشمس، ويقال‏:‏ شهر رمضان، من شدة الحر، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التى وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، ويجمع على رمضانات، وأرمضاء، وأرمضة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي أُنزل فيه القرآن‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ أنه أُنزل القرآن بفرض صيامه، روي عن مجاهد، والضحاك‏.‏ والثالث‏:‏ أن معناه‏:‏ إن القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن إسحاق، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والفرقان‏:‏ المخرج في الدين من الشبهة والضلالة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ أي‏:‏ من كان حاضراً غير مسافر‏.‏ فان قيل‏:‏ ما الفائدة في إعادة ذكر المرض والسفر في هذه الآية، وقد تقدم ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ لأن في الآية المتقدمة منسوخاً، فأعاده لئلا يكون مقروناً بالمنسوخ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والضحاك، اليسر‏:‏ الإِفطار في السفر، والعسر‏:‏ الصوم فيه‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ أي ذلك كان أيسر عليك فافعل‏:‏ الصوم في السفر، أو الفطر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكملوا العدة‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏ولتكملوا‏}‏ باسكان الكاف خفيفة‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم، وذلك مثل‏:‏ «وصّى» و«أوصى» وقال ابن عباس‏:‏ ولتكملوا عدة ما أفطرتم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المراد به‏:‏ لا تزيدوا على ما افترض، كما فعلت النصارى، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال، أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم‏.‏ فان قيل‏:‏ ما وجه دخول الواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولتكملوا العدة ولتكبروا الله‏}‏ وليس هناك ما يعطف عليه‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة، والمعنى‏:‏ ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم، ولتكملوا العدة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، ذكره ابن الأنباري‏.‏

فصل

ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر، وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلَّى‏.‏ واختلفت الرواية عن أحمد، رضي الله عنه، متى يقطع في عيد الفطر، فنقل عنه حنبل‏:‏ يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة‏.‏ ونقل الأثرم‏:‏ إذا جاء المصلَّى، قطع‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ يعني‏:‏ إذا جاء المصلى وخرج الإمام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏186‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني‏}‏

في سبب نزولها خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه‏؟‏ فنزلت هذه الآية، رواه الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده‏.‏

والثاني‏:‏ أن يهود المدينة قالوا‏:‏ يا محمد‏!‏ كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ لو نعلم أية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعوانا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء‏.‏

والرابع‏:‏ أن أصحاب النبي قالوا له‏:‏ أين الله‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله الحسن‏.‏

والخامس‏:‏ أنه لما حرم في الصوم الأول على المسلمين بعد النوم الأكل والجماع؛ أكل رجل منهم بعد أن نام، ووطئ رجل بعد أن نام، فسألوا‏:‏ كيف التوبة مما عملوا‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ إذا سألوك عني، فأعلمهم أني قريب‏.‏

وفي معنى «أجيب» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أسمع، قاله الفراء، وابن القاسم‏.‏ والثاني‏:‏ أنه من الإِجابة ‏{‏فليستجيبوا لي‏}‏ أي‏:‏ فليجيبوني‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وداع دعا يا من يجيب إِلى الندى *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد‏:‏ فلم يجبه‏.‏ وهذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ ‏{‏لعلهم يرشدون‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ يعني‏:‏ يهتدون‏.‏

فصل

إن قال قائل‏:‏ هذه الآية تدل على أن الله تعالى يجيب أدعية الداعين، وترى كثيراً من الداعين لا يستجاب لهم‏!‏

فالجواب‏:‏ أن أبا سعيد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏ ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إِثم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال‏:‏ إِما أن يعجل دعوته، وإِما أن يدخرها له في الآخرة، وإِما أن يدفع عنه من السوء مثلها ‏"‏ وجواب آخر‏:‏ وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله، ومنها أكل الحلال، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء، ومنها حضور القلب، ففي بعض الحديث‏:‏ ‏"‏ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه ‏"‏ وجواب آخر‏:‏ وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل، وقد لا تكون المصلحة في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي، وهو‏:‏ طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏187‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث‏}‏

سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرما عليه إلى أن يفطر، فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى أهله، فقال‏:‏ عشوني، فقالوا‏:‏ حتى نسخن لك طعاماً، فوضع رأسه فنام، فجاؤوا بالطعام، فقال‏:‏ قد كنت نمت، فبات يتقلب ظهراً لبطن، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأخبره، فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني أردت أهلي الليلة، فقالت‏:‏ إنها قد نامت، فظننتها تعتل، فواقعتها، فأخبرتني أنها قد نامت، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ وأنزل الله في الأنصاري‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ هذا قول جماعة من المفسرين‏.‏ واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ قيس بن صرمة، قاله البراء‏.‏ والثاني‏:‏ صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمد، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى‏:‏ صرمة بن مالك‏.‏ والثالث‏:‏ ضمرة بن أنس‏.‏ والرابع‏:‏ أبو قيس بن عمر‏.‏ وذكر القولين أبو بكر الخطيب‏.‏ فأما «الرفث» فقال ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وابن جبير في آخرين‏:‏ هو الجماع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن اللباس السكن‏.‏ ومثله ‏{‏جعل لكم الليل لباساً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏ أي‏:‏ سكناً‏.‏ وهذا قول ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنهن بمنزلة اللباس، لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والعرب تسمي المرأة‏:‏ لباساً وإزاراً، قال النابغة الجعدي‏:‏

إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت فكانت عليه لباساً

وقال غيره‏:‏

ألا أبلغ أبا حفص رسولا *** فدىً لك من أخي ثقة إِزاري

يريد‏:‏ بالإزار‏:‏ امرأته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَ الله أنَكم كنتم تختانون أنفُسَكم‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يريد‏:‏ تخونونها بارتكاب ما حُرِّمَ عليكم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وعنى بذلك فعل عمر، فإنه أتى أهله، فلما اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏‏:‏ أصل المباشرة‏:‏ إلصاق البشرة بالبشرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد بالمباشرة هاهنا‏:‏ الجماع‏.‏ ‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه الولد، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد في آخرين‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد، فقال‏:‏ ‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏ يريد‏:‏ الولد‏.‏ والثاني‏:‏ أن الذي كتب لهم الرخصة، وهو قول قتادة‏.‏ وابن زيد‏.‏ والثالث‏:‏ أنه ليلة القدر‏.‏ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أنه القرآن، فمعنى الكلام‏:‏ اتبعوا القرآن، فما أُبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى، وهذا اختيار الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض‏}‏ ‏"‏ قال عدي بن حاتم‏:‏ لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين، أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض، فلما أصبحت؛ غدوت على رسول الله فأخبرته، فضحك وقال‏:‏ «إِن كان وسادك إِذاً لعريض، إِنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» ‏"‏ وقال سهل بن سعد‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود‏}‏ ولم ينزل‏:‏ ‏{‏من الفجر‏}‏ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما، فأنزل الله بعد ذلك ‏{‏من الفجر‏}‏ فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار‏.‏

فصل

إذا شك في الفجر، فهل يدع السحور أم لا‏؟‏ فظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا يدع السحور، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر‏.‏ وقال مالك‏:‏ أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر، فان أكل فعليه القضاء وقال الشافعي‏:‏ لا شيء عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ في هذه المباشرة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها المجامعة، وهو قول الاكثرين والثاني‏:‏ أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك، فوعظهم الله في ذلك‏.‏

فصل

الاعتكاف في اللغة‏:‏ اللبث، يقال‏:‏ فلان معتكف على كذا، وعاكف‏.‏ وهو فعل مندوب إليه، إلا أن ينذره الإنسان، فيجب‏.‏ ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات، ولا يشترط في حق المرأة مسجد تقام فيه الجماعة، إذ الجماعه لا تجب عليها‏.‏ وهل يصح بغير صوم‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ المباشرة ‏{‏فلا تقربوها‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الحدود ما منع الله من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها‏.‏ وأصل الحد في اللغة‏:‏ المنع، ومنه‏:‏ حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها‏.‏ والحداد في اللغة‏:‏ الحاجب والبواب، وكل من منع شيئاً فهو حداد‏.‏ قال الأعشى‏:‏

فقمنا ولما يصحْ ديكنا *** إِلى جونة عند حدادها

أي‏:‏ عند ربها الذي يمنعها إلا بما يريده‏.‏ وأحدت المرأة على زوجها، وحدّت، فهي حاد، ومحد‏:‏ إذا قطعت الزينة، وامتنعت منها، وأحددت النظر إلى فلان‏:‏ إذا منعت نظرك من غيره‏.‏ وسمي الحديد حديداً، لأنه يمتنع به الأعداء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا البيان الذي ذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏188‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏

سبب نزولها‏:‏ أن امرؤ القيس بن عابس، وعبدان الحضرمي، اختصما في أرض، وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأَيْمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏‏.‏ فكره أن يحلف، ولم يخاصم في الأرض، فنزلت هذه الآية‏.‏ هذا قول جماعة، منهم سعيد بن جبير‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لا يأكل بعضكم أموال بعض، كقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا أنفسكم‏}‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ والباطل على وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغصب، والخيانة، والثاني‏:‏ أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار، والغناء، وثمن الخمر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الباطل الظلم‏.‏ «وتدلوا» أصله في اللغة من‏:‏ أدليت الدلو‏:‏ إذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها‏:‏ إذا أخرجتها‏.‏ ومعنى أدلى فلان بحجته‏:‏ أرسلها، وأتى بها على صحة‏.‏ فمعنى الكلام‏:‏ تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجة، وتخونون في الأمانة، وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن‏.‏

وفي ها «بها» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها ترجع إلى الأموال كأنه قال‏:‏ لا تصانعوا ببعضها جَوَرَة الحكام‏.‏ والثاني‏:‏ أنها ترجع إلى الخصومة، فان قيل‏:‏ كيف أعاد ذكر الأكل فقال‏:‏ «ولا تأكلوا» «لتأكلوا» فالجواب‏:‏ أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل، والثانية بالإثم، فأعادها للزيادة في المعنى، ذكره ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عن الأَهِلَّةِ‏}‏

هذه الآية من أولها إلى قوله‏:‏ «والحج» نزلت على سبب، وهو أن رجلين من الصحابة قالا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ما بال الهلال يبدو دقيقاً، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏ هذا قول ابن عباس‏.‏

ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس البِرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها‏}‏ إلى آخرها، يدل على سبب آخر، وهو أنهم كانوا إذا حجوا، ثم قدموا المدينة، لم يدخلوا من باب، ويأتون البيوت من ظهورها، فنسي رجل، فدخل من باب، فنزلت‏:‏ ‏{‏وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها‏}‏ هذا قول البراء بن عازب‏.‏

وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام، قاله ابن عباس، وأبو العالية، والنخعي، وقتادة، وقيس النهشلي‏.‏ والثاني‏:‏ لأجل دخول الشهر الحرام، قاله البراء بن عازب‏.‏ والثالث‏:‏ أن أهل الجاهلية كانوا إذا همَّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه؛ لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به، قاله الحسن‏.‏ والرابع‏:‏ أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه‏.‏

فأما التفسير؛ فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلَّة ونقصانها، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجهم وغير ذلك‏.‏ والأهلَّة‏:‏ جمع هلال‏.‏ وكم يبقى الهلال على هذه التسمية‏؟‏ فيه للعرب أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه يسمى هلالاً لليلتين من الشهر‏.‏ والثاني‏:‏ لثلاث ليال، ثم يسمى‏:‏ قمراً‏.‏ والثالث‏:‏ إلى أن يحجر، وتحجيره‏:‏ أن يسير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي‏.‏ والرابع‏:‏ إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل‏.‏ حكى هذه الأقوال ابن السري، واختار الأول، قال‏:‏ واشتقاق الهلال من قولهم‏:‏ استهل الصبي‏:‏ إذا بكى حين يولد، وأهل القوم بالحج‏:‏ إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، فسمي هلالاً، لأنه حين يُرى يُهل الناس بذكره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنَّ البرَّ من اتقى‏}‏ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البرَّ من آمن بالله‏}‏ وقد سبق بيانه، واختلف القراء في البيوت وما أشبهها، فقرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، بكسر باء «البيوت» وعين «العُيون» وغين «الغُيوب» وروي عن نافع أنه ضم باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ» وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت» وقرأ أبو عمر، وأبو جعفر بضم الأحرف الخمسة، وكسرهن جميعاً حمزة، واختلف عن عاصم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع‏:‏ بيت وبيوت، مثل‏:‏ قلب وقلوب، وفلس وفلوس، ومن كسر، فانما كسر للياء التي بعد الباء، وذلك عند البصريين رديء، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء‏.‏ وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول‏:‏ إذا كان الجمع على فعول، وثانيه ياء؛ جاز فيه الضم والكسر، تقول‏:‏ بُيوتٌ وبِيوت، وشُيوخٌ وشِيوخ، وقُيود وقِيود‏.‏